السعودية تعيد إعمار سوريا- استثمارات تاريخية تدعم الاستقرار والأمل
المؤلف: رامي الخليفة العلي08.23.2025

في ظل مناخ سياسي واقتصادي يعج بالتحديات الإقليمية والطموحات الوطنية، أعلنت المملكة العربية السعودية في الرابع والعشرين من شهر يوليو عام 2025، وذلك خلال فعاليات منتدى الاستثمار السوري السعودي الذي انعقد في قلب دمشق، عن إبرام 47 اتفاقية ومذكرة تفاهم استثمارية تقدر قيمتها الإجمالية بنحو 24 مليار ريال سعودي، أي ما يعادل 6.4 مليارات دولار أمريكي. وقد وصفت وسائل الإعلام هذه الخطوة بأنها تمثل منعطفًا جوهريًا وتحولًا استراتيجيًا في مسار العلاقات الاقتصادية بين البلدين الشقيقين.
ومن بين هذه الحزمة من الاتفاقيات، تم تخصيص مبلغ يزيد عن 11 مليار ريال سعودي (ما يعادل 2.93 مليار دولار أمريكي) لتمويل مشروعات البنية التحتية والتطوير العقاري، والتي تتضمن إنشاء ثلاثة مصانع حديثة ومتطورة لإنتاج الإسمنت، في حين يبلغ حجم الاستثمارات الموجهة نحو قطاع الاتصالات وتقنية المعلومات حوالي أربعة مليارات ريال سعودي (أي ما يقارب المليار دولار أمريكي).
وتتضمن الاتفاقيات أيضًا توقيع مذكرة تفاهم مشتركة بين سوق دمشق للأوراق المالية ومجموعة تداول السعودية، وذلك بهدف تعزيز التعاون المثمر والبناء في مجال التقنيات المالية الحديثة، بالإضافة إلى تنفيذ مشروع سكني تجاري ضخم في مدينة حمص السورية من قبل شركة «بيت الإباء»، على أن تخصص العوائد والأرباح المتأتية من المشروع لدعم وتمويل برامج التكافل الاجتماعي.
ويتوزع الاستثمار السعودي النوعي على مختلف القطاعات الحيوية والهامة في الاقتصاد السوري، بما في ذلك قطاعات الطاقة المتجددة، والتطوير العقاري، والصناعات التحويلية، والبنية التحتية المتطورة، والخدمات المالية المبتكرة، والرعاية الصحية المتميزة، والزراعة المستدامة، والاتصالات المتقدمة، وتقنية المعلومات الحديثة، وقطاع المقاولات، والتعليم المتميز. وتشير التقارير الواردة في هذا الشأن إلى أن أكثر من عشرين جهة حكومية سعودية وما يزيد على مئة شركة من كبرى شركات القطاع الخاص السعودي قد شاركت بفاعلية في فعاليات المنتدى، الأمر الذي يعكس بوضوح النية السعودية الصادقة والطموحة لخلق شراكة استراتيجية متينة وطويلة الأمد بين البلدين، لا سيما بعد موافقة صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان على تأسيس مجلس أعمال سعودي سوري مشترك.
هذا الزخم الاقتصادي المتزايد يتجاوز مجرد كونه استثمارًا ماليًا، ليشكل في حد ذاته موقفًا سياسيًا قويًا وداعمًا للشرعية السورية الناشئة في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد وتولي الرئيس الانتقالي أحمد الشرع مقاليد السلطة. فعلى الرغم من أن الحكومة السورية الجديدة لا تزال في طور استكشاف طريقها وسط تحديات أمنية واقتصادية واجتماعية جمة، إلا أن ضخ مليارات الدولارات من المملكة العربية السعودية إلى دمشق يمثل حقنًا لشرايين الدولة بموارد حيوية تدعم بشكل كبير قدرتها على إعادة الإعمار الشامل وتوفير الخدمات الأساسية للمواطنين وتحريك عجلة الاقتصاد الوطني، وهو ما يمثل في الواقع العملي «إعادة دمج» حقيقية لسوريا في محيطها العربي والإقليمي ومساندة قوية لرغبتها الأكيدة في بناء مؤسسات حديثة قادرة على مواكبة تحديات العصر.
الجدير بالذكر أن هذا المنتدى الاستثماري الهام قد انعقد بعد أيام قليلة فقط من قصف إسرائيلي عنيف استهدف دمشق في السادس عشر من شهر يوليو، حيث استهدفت الطائرات الإسرائيلية مقر هيئة الأركان في ساحة الأمويين ومواقع أخرى، وهو ما يمثل مؤشرًا واضحًا على السياسة الإسرائيلية العدوانية التي تهدف إلى ممارسة الضغوط المتزايدة على الحكومة السورية عبر استغلال حالة الفوضى الأمنية السائدة في المنطقة الجنوبية. وفي هذا السياق تحديدًا، يعد الإعلان السعودي بمثابة رسالة سياسية مزدوجة الأبعاد، فمن جهة يؤكد أن دمشق ليست وحيدة وأن لديها سندًا ودعمًا عربيًا قويًا يمثل الثقل الوازن في المنطقة بأسرها، ومن جهة أخرى يلمح إلى أن خيارات المواجهة مع إسرائيل ليست عسكرية فحسب، بل اقتصادية أيضًا، فالتنمية الشاملة وتثبيت الاستقرار يمثلان ردًا حضاريًا وناعمًا على التصعيد الإسرائيلي غير المبرر.
وفي خضم هذه التحولات الإيجابية المتسارعة، يحتفي الشعب السوري بما يعتبرونه عودة الروح العربية الأصيلة إلى بلادهم، ويشعرون بأن استثمارات المملكة العربية السعودية ليست مجرد أرقام أو مشاريع استثمارية، وإنما هي رسائل أخوة صادقة وسند إنساني لا يقدر بثمن. فالشارع السوري يرى في قرار الرياض تسديد ديون سوريا المستحقة للبنك الدولي، وكذلك ضخ مليارات الدولارات في قطاعات متنوعة، ترجمة عملية لقول وزير الاستثمار السعودي بأن المملكة تقف «موقفًا ثابتًا وراسخًا وداعمًا لسوريا الشقيقة».
ويزداد هذا الشعور بالامتنان والعرفان عمقًا وتجذرًا حين يتذكر السوريون كيف فتحت المملكة العربية السعودية أبوابها وقلوبها لأكثر من 2600 رائد أعمال سوري، وكيف استوعبت عشرات الآلاف من أبناء الجالية السورية الكريمة ومنحتهم فرصًا حقيقية للعيش الكريم والعمل الشريف. وبينما تنظر بعض الدول الغربية بعين الشك والريبة إلى المستقبل السوري، وتشكك في قدرة الحكومة الانتقالية على إدارة بلد مزقته الحرب الأهلية لأربعة عشر عامًا عجافًا، فإن المبادرة السعودية السخية تأتي لتقول بلسان الحال إن ثمة من يثق كل الثقة بقدرة السوريين الأشقاء على النهوض من تحت الركام وبناء وطن مزدهر ينعم بالرخاء والاستقرار.
هذا الشعور الجارف بالاعتزاز والفخر يتجاوز القيادة السياسية ليلامس قلوب الناس العاديين الذين خرجوا لاستقبال الوفد السعودي الزائر في دمشق بأعلام خضراء ترفرف في سماء العاصمة، مرددين الأهازيج الوطنية التي تربط بعمق بين مكة المكرمة ودمشق الشام، وبين العروبة والإسلام، وبين الذاكرة المشتركة والتاريخ العريق. فاللغة التي يتحدث بها السوريون عن الرياض اليوم هي لغة الحب العميق والشكر الجزيل، إذ يرون أنه لا شيء يضاهي هذا الكرم السياسي والاقتصادي والإنساني المتدفق، فهو كرم يغسل مرارة ذكريات الحرب الأليمة وينسج خيوط الأمل المشرق في أن تعود بلادهم الغالية كما كانت دومًا ملتقى للحضارات العريقة ومركزًا نابضًا للتجارة والثقافة والفنون. ومن هنا، تبدو الاستثمارات السعودية في سوريا أكثر بكثير من مجرد عقود تجارية واتفاقيات استثمارية؛ إنها تعبير صادق عن قدرة الشعوب العربية الشقيقة على تجاوز جراحها العميقة حين تتكاتف وتتعاون وتتآزر، ورسالة واضحة بأن العلاقات الأخوية المتينة بين الشعبين الشقيقين أقوى وأصلب من كل المحن والشدائد، وأن القلب السعودي الكبير الذي يطرق باب دمشق اليوم يفتح معه نافذة واسعة على مستقبل مشرق ومزدهر يستحقه السوريون بجدارة.